نبذة النيل والفرات:
"قال رجل لأبي حنيفة ما تقول في رجل قال: "لا أرجو الجنة، ولا أخاف النار، وآكل الميتة، وأشهد بما لم أر، ولا أخاف الله، وأصلي بلا ركوع ولا سجود، وأبغض الحق، وأحب الفتنة". فقال أبو حنيفة، وكان يعرفه شديد البغض له: يا فلان، ما سألتني عن هذه المسألة، ولك بها علم؟ قال: لا، ولكن لم أجد شيئاً هو أشنع من هذا فسألتك عنه. فقال أبو حنيفة لأصحابه: ما تقولون في هذا الرجل؟ قالوا: شر رجل، هذه صفة كافر. فتبسم أبو حنيفة، وقال: لقد شنعتم فيه القول. ثم قال: هو والله من ألأولياء. ثم التفت إلى الرجل وقال له: إن أخبرتك أنك من أولياء الله تعالى حقاً تكف عني شرك، ولا تمل على الحفظة ما يضرّك؟ قال: نعم. قال: أمّا قولك" ولا أرجو الجنة، ولا أخاف النار" هذا يعني أنك ترجو رب الجنة وتخاف رب النار. وأما قولك "وآكل الميتة"، أي تأكل السمك. وأما قولك: "أشهد بما لم أر" أي أنك تشهد شهادة الحق، أي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله". وأما قولك: "ولا أخاف الله" أي أنك لا تخاف ظلمه ولا جوره قال الله تعالى "وما ربك بظلام للعبيد". وأما قولك: "أصلي بلا ركوع ولا سجود" أي أن أكثر عملك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد لزمت موضع الجنائز فأنت تصلي عليها، وتعتبر بقصر أملك، وتصلي على كل مسلم ومسلمة، وتدعو للأحياء والأموات. وأما قولك "أبغض الحق" أي أنك تحب البقاء حتى تطيع الله، وتكره الموت وهو الحق. قال تعالى "وجاءت سكرة الموت بالحق". وأما قولك: "أحب الفتنة" فإن القلوب مجبولة على حبّ المال والولد، وذلك من الفتنة العظيمة على قلوب المؤمنين. قال تعالى "إنما أموالكم وأولادكم فتنة". فأذعن الرجل، ورجع عن بغضه لأبي حنيفة، وتاب إلى الله عز وجل.
تلك كانت طريفة من الطرائف الكثيرة التي سردها هذا الكتاب الذي بين أيدينا والذي أعد خصيصاً ليروح عن نفس القراء بسرده للعديد من الطرائف الدينية تارة، والأخلاقية التربوية تارة أخرى، وهو يضم قصصاً أو يمكن أن نقول نوادر مضحكة فيها الموعظة والعبرة حدثت من الزمن الغابر مع الملوك أو الشعراء أو العلماء أو حتى الحمقى والمغفلين.
و"محسن عقيل" يعيد سردها في هذا الكتاب لأنه يرى أن الأرواح قد تكل من مطالعة العلوم وإدراكها فتحتاج بالتالي إلى التروح تارة بالحكم العلمية، وتارة بالنزول إلى عالم البشر وسلوك مسالكهم وذلك لأن إدراكات العلوم لذات الروح وغذاؤها واللذة إذا دامت على خلاف العادة يحصل منها الملال كالأطعمة الحسية بالنسبة إلى طبيعة البدن فلا بد من أن تفرحها وتمرحها حتى يحصل لها نشاط جديد وفريد وإقبال على المطالعات والإدراكات.